الجنوب برس

هام: برلمان مشلول وأحزاب في ثلاجة الموتى.. فشل في التكيّف مع بيئة ما بعد الوحدة.. فهل يصلح الرئاسي ما أفسدته المحاصصة؟
اخبار وتقارير الجنوب برس
شرعية البرلمان المنقوصة ودور مجلس القيادة الرئاسي في إعادة بناء الدولة
> تحليل سياسي:
شرعية البرلمان المنقوصة ودور مجلس القيادة الرئاسي في إعادة بناء الدولة
خارطة طريق بعقد اجتماعي جديد وأسس شراكة لدولة مدنية تحكمها الكفاءة.
بالنظر إلى الساحة السياسية اليوم وجدنا أنفسنا في صحيفة "الأيام" نجري تحليلا للعشر السنوات الماضية وتقييم الفرص الضائعة للخروج بحل.. خلال بحثنا، الذي استمر لنحو عام، تحدثنا إلى شرائح مختلفة في المجتمع من دكاترة وأساتذة قانون وقضاة ومواطنين عاديين وتجار وسياسيين من الأحزاب ومستقلين وديبلوماسيين وخرجنا بحصيلة جيدة نعتقد أنها من الممكن أن تؤسس لخارطة طريق يضعها المجتمع للساسة للخروج من الأزمة السياسية العميقة اليوم.
مرت الساحة السياسية اليمنية في العقود الماضية بتحولات جذرية، كان من أبرزها الانهيار التدريجي للأحزاب السياسية التقليدية، وتحولها من قوى فاعلة في بناء الدولة إلى كيانات عاجزة عن التفاعل مع متطلبات الشارع أو التحديات الوطنية. ويمكن القول إن الأحزاب اليمنية، وعلى رأسها "المؤتمر الشعبي العام" و"التجمع اليمني للإصلاح" و"الحزب الاشتراكي اليمني"، قد وصلت إلى مرحلة الموت السريري .
أولًا: انهيار الأحزاب اليمنية التقليدية
لا يمكن الحديث عن أزمة السياسة في اليمن دون التوقف عند الواقع البائس للأحزاب السياسية، التي أصبحت عبئًا على الدولة والمجتمع، بعد أن تحولت من قوى تمثيل إلى أدوات صراع وفساد بسبب مجموعه من العوامل:
1 . الإفلاس الفكري والتنظيمي: الأحزاب اليمنية لم تطور برامجها السياسية منذ بداية الألفية، وباتت تعيش على رصيد الماضي، فيما تغيّر الواقع كليًا.
2 . السقوط الأخلاقي والسياسي: تورط العديد من الأحزاب في الفساد، وفي دعم مليشيات أو التحالف مع قوى خارجية، ما أفقدها ثقة الشارع ومشروعيتها الوطنية.
3 . انعدام الديمقراطية الداخلية: سيطرة النخب التقليدية، وغياب التناوب القيادي، جعلت من هذه الكيانات "مزارع سياسية" تحتكر القرار وتمنع تجديد الدماء.
النتيجة هي أن المشهد الحزبي اليوم لا يعكس طموحات الشعب، ولا يعبر عن تطلعاته السياسية، بل يرسّخ الانقسام، ويكرّس غياب البدائل المدنية.
المؤتمر الشعبي العام
يُعد حزب المؤتمر الشعبي العام أحد أبرز الأحزاب السياسية في اليمن منذ تأسيسه في عام 1982 على يد الرئيس الراحل علي عبدالله صالح، وقد شكّل لعقود عمودًا فقريًّا للحكم والنظام السياسي. إلا أن هذا الحزب العريق وصل إلى حالة من الانهيار والانقسام الكامل بعد ثورة 2011 ومقتل زعيمه في ديسمبر 2017، ليتحول من كيان موحد إلى خمسة أجنحة متصارعة، لا يجمعها سوى الاسم.
أسباب فشل الحزب:
- الزعامة الفردية المطلقة التي جعلت الحزب يدور حول شخصية صالح دون مؤسسات قوية.
- التحالفات البراغماتية المتناقضة، خاصة مع الحوثيين في صنعاء، التي أدت إلى فقدان الثقة والشرعية.
- غياب الإصلاح الداخلي وعدم تهيئة قيادة بديلة قادرة على تجديد الحزب.
- الصراع على النفوذ والمناصب بعد وفاة صالح، ما عجّل بتفكك الحزب إلى أجنحة متناحرة.
الأجنحة الخمسة لحزب المؤتمر:
< جناح صنعاء:
بقيادة شخصيات موالية للحوثيين مثل صادق أمين أبو راس.. يتخذ من العاصمة صنعاء مقرًا له.. أصبح مجرد واجهة مدجنة داخل سلطة الحوثيين.
< جناح عدن/ الشرعية:
يقوده أحمد عبيد بن دغر وبعض الموالين للشرعية.. يحاول الظهور كحزب وطني معتدل لكنه بلا قواعد فاعلة.
< جناح طارق صالح (المقاومة الوطنية):
يُعد الأكثر حراكًا عسكريًا لكنه يفتقر للبنية الحزبية.. يتمركز في الساحل الغربي ويتماهى مع أجندة إقليمية.
< جناح أبو ظبي (مؤتمر الخارج):
يمثله عدد من القيادات السابقة التي تقيم في الإمارات.. يميل للتقارب مع المجلس الانتقالي ويعاني من العزلة السياسية.
< جناح القاهرة (مؤتمر الشتات):
يضم شخصيات مؤتمريه مقيمة في مصر، تحاول تقديم نفسها كجناح "شرعي" جامع.. يفتقر للدعم الشعبي أو التمثيل المؤسسي الحقيقي.
أصبح حزب المؤتمر الشعبي العام مجرد شظايا متناثرة بلا مشروع سياسي موحد، وبلا قاعدة جماهيرية متماسكة، بعد أن كان ذات يوم يملك السلطة والنفوذ والشرعية. تفككه يعكس الانهيار العام للمنظومة السياسية اليمنية، ويمثل نموذجًا لفشل الأحزاب التقليدية في التكيف مع التحولات السياسية والاجتماعية، ما يفتح الباب أمام قوى جديدة لإعادة تشكيل المشهد السياسي في البلاد.
التجمع اليمني للإصلاح
يُعتبر حزب التجمع اليمني للإصلاح أحد أبرز الأحزاب الإسلامية في اليمن منذ تأسيسه عام 1990، كتحالف سياسي يضم الإسلاميين من التيار السني (خصوصًا السلفيين والإخوان المسلمين) مع عناصر قبلية نافذة. وقد شكّل الإصلاح لفترة طويلة القوة السياسية المعارضة الرئيسية في وجه حزب المؤتمر الشعبي العام، ثم شريكًا في السلطة بعد ثورة 2011، لكنه فشل في التحوّل إلى حزب دولة، وبدأ نفوذه يتراجع تدريجياً حتى أصبح اليوم واحدًا من رموز الإخفاق السياسي في اليمن.. تراكمات سلوكه السياسي والأمني والاجتماعي جعلته اليوم رمزًا للفشل والنفور الشعبي، خصوصًا في الجنوب.
الأسباب الجوهرية لفشل الحزب :
< الارتهان الأيديولوجي للإخوان المسلمين:
رغم محاولات التبرؤ العلني، ظل الإصلاح على ارتباط عضوي وفكري وتنظيمي بجماعة الإخوان.. هذا الارتباط جلب له خصومات إقليمية ودولية، خصوصاً من السعودية والإمارات، اللتين صنفتا الإخوان كجماعة إرهابية.. هذا الانتماء العقائدي أدى إلى حظر غير معلن لنشاطه في العديد من المحافظات المحررة.
< التحالفات المتقلبة والانتهازية:
انتقل الحزب من معارضة شديدة لنظام علي عبدالله صالح إلى تحالف مع خصومه.. دخل في شراكة مع الحوثيين في حروب صعدة ثم عاداهم لاحقًا.. قام بالمشاركة في بعض احتجاجات الحراك الجنوبي في عدن إبان حكم الرئيس السابق على عبدالله صالح ليقوم بعد المظاهرات بتسليم أسماء المحتجين لأجهزة الأمن.. استغل ثورة 2011 للاستحواذ على مؤسسات الدولة باسم "التغيير"..
< الهيمنة القبلية والعسكرية:
تحوّل الحزب إلى مظلة لزعماء قبليين وقادة عسكريين نافذين على حساب العمل المؤسسي والسياسي المدني.. تداخل مصالح الحزب مع وحدات عسكرية خاصة به مثل الفرقة الأولى مدرع، مما أضعف صورته كحزب سياسي.
< الإقصاء السياسي بعد 2015:
خسرت قياداته في صنعاء وهُجّرت إلى الخارج، وأصبحت مهمّشة في مناطق الشرعية.. رفضت أطراف إقليمية عودته إلى المشهد بسبب خلفيته الإخوانية، ما عزله عن مراكز القرار.
< العداء الشعبي المتزايد:
اتُّهم الحزب بالتغلغل في مؤسسات الدولة بعد 2011 ونهب الوظائف العامة.
تراجع التأييد الشعبي له خصوصًا في المحافظات الجنوبية والوسطى، نتيجة مواقفه المتناقضة والتوظيف الديني للسلطة.
< كره الجنوبيين لحزب الإصلاح
في المحافظات الجنوبية، يُنظر إلى حزب الإصلاح كأداة لقمع الجنوب ونهب ثرواته، وترتبط صورته في الذاكرة الجمعية الجنوبية بـ:
1 . تحالفه مع نظام علي عبدالله صالح أثناء حرب 1994، حين لعب دورًا مركزيًا في اجتياح الجنوب عبر الفتاوى والتعبئة الدينية التي اعتبرت الجنوبيين "مرتدين".
2 . فرض سياسات تهميش واستبعاد بعد الحرب، حيث تمت تصفية الآلاف من العسكريين والمدنيين الجنوبيين من وظائفهم تحت غطاء "الإصلاحات الإدارية".
3 . دعمه للجماعات المتشددة: يُتهم بإيواء وتمويل عناصر مرتبطة بالقاعدة في شبوة وأبين، ما أدى إلى توتر كبير مع المجتمع الجنوبي.
4 . محاولاته المستمرة للهيمنة على القرار في محافظات الجنوب المحررة، عبر نفوذه داخل "الشرعية"، مما عزز مشاعر الاحتلال السياسي والديني لدى المواطنين الجنوبيين.
هذا التاريخ جعل من حزب الإصلاح الخصم الأكثر رفضًا من قِبل الشارع الجنوبي، لدرجة أن اسمه أصبح مرادفًا "للخطر الإخواني" في الخطاب السياسي والإعلامي الجنوبي.
العلاقة بجماعة الإخوان المسلمين:
يُعد الإصلاح الفرع اليمني غير المعلن للإخوان المسلمين، ويستند إلى نفس الإيديولوجيا الدينية السياسية.
ظل عضويًا في "التنظيم الدولي للإخوان" لسنوات، ومثّلهم في اليمن سياسيًا ودعويًا.. هذا الارتباط عرّضه لحملات استهداف واسعة، خاصة من التحالف العربي، وأدى إلى شيطنته في عدة دول عربية.
فشل حزب التجمع اليمني للإصلاح ناتج عن خليط من الإيديولوجية الدينية، والارتباط الخارجي، والتغوّل القبلي والعسكري، والبراغماتية السياسية المفرطة. وبعد أن كان لاعبًا رئيسيًا في المعادلة اليمنية، أصبح اليوم حزبًا منبوذًا من الداخل والخارج، وغير قادر على تقديم أي مشروع وطني جامع. تجربته تؤكد أن تديين السياسة وارتهانها للتنظيمات العابرة للحدود لا يؤدي إلا إلى السقوط والفشل.
الحزب الاشتراكي اليمني
يُعد الحزب الاشتراكي اليمني أحد أقدم وأعرق الأحزاب في اليمن، وقد تأسس كامتداد للحزب الحاكم في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (الجنوب سابقًا). ولعب دورًا محوريًا في تشكيل الدولة الجنوبية قبل الوحدة، ثم ساهم في إعلان وحدة اليمن عام 1990. إلا أن الحزب دخل بعد ذلك في مرحلة انحدار متسارع، انتهت به إلى هامش الحياة السياسية، دون قاعدة جماهيرية فاعلة أو مشروع وطني مؤثر.
أبرز أسباب فشل الحزب الاشتراكي:
< الهزيمة في حرب 1994:
شكّلت الحرب نقطة الانهيار الكبرى للحزب، حيث فقد نفوذه العسكري والسياسي بعد اجتياح الجنوب من قبل قوات تحالف المؤتمر الشعبي العام والإصلاح.
أعقب الهزيمة تفكيك مؤسسات الحزب، وملاحقة كوادره، ونفي قياداته إلى الخارج، ما أضعف بنيته التنظيمية وأفقده قوته الجماهيرية.
< الفشل في التكيّف مع بيئة ما بعد الوحدة:
تمسك الحزب بخطابه التقليدي ذي الطابع الأيديولوجي اليساري، ما جعله يبدو منفصلًا عن التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في اليمن بعد الوحدة.
لم ينجح في إعادة بناء نفسه كحزب معارض حديث، ورفض الانخراط الفعّال في القوى الجديدة التي ظهرت بعد ثورة 2011.
< الانقسام الداخلي وفقدان القيادة الفاعلة:
شهد الحزب انقسامات متعددة بين جناح يعيش في الخارج وآخر داخل اليمن، وبين تيارات محافظة ويسارية وعلمانية، ما أضعف قراره السياسي وقلّص حضوره في المشهد.
غياب قيادات كاريزمية أو مشروع سياسي جامع أدى إلى تحوّله إلى حزب نخبوي بلا جمهور.
الجمود السياسي والتنظيمي:
لم يشهد الحزب أي عملية إصلاح هيكلي حقيقية منذ التسعينيات.. ظل محافظًا على هياكله القديمة ورؤاه البيروقراطية، في وقت كانت الساحة اليمنية تعج بتحولات هائلة.
< تراجع التأثير وفقدان الهوية
لم يعد الحزب الاشتراكي يمثل الجنوب كما كان سابقًا، إذ صعدت قوى جديدة مثل المجلس الانتقالي الجنوبي، استثمرت القضية الجنوبية واستقطبت القواعد الشعبية التي كانت محسوبة على الاشتراكي.
الحزب فشل في تحقيق التوازن بين الماضي الثوري والحاضر السياسي، وبقي حبيس شعارات لا تجد صدى في الشارع اليمني.
اليوم، يُنظر إلى الاشتراكي كحزب "متقاعد سياسيًا"، يتردد بين الحنين إلى تجربة الحكم السابقة وبين العجز عن صياغة مستقبل جديد.
فشل الحزب الاشتراكي اليمني هو نتيجة تاريخ طويل من الإقصاء السياسي، وغياب التجديد، وفقدان القيادة والمرونة. فعلى الرغم من إرثه السياسي الكبير، إلا أنه لم يستطع إعادة إنتاج نفسه كقوة حديثة، واختار الانزواء في الظل بدلًا من خوض معركة التحول. واليوم، يقف الاشتراكي كشاهد على ماضٍ ثوري مجيد، وحاضر سياسي بائس، ومستقبل غامض.
ثانيًا: برلمان بلا شرعية منذ 2003... وبرلمان موازٍ في صنعاء يكرّس الانقسام
لطالما شكّل البرلمان اليمني – باعتباره المؤسسة التشريعية العليا – أحد أعمدة النظام السياسي الجمهوري. غير أن هذا الصرح الدستوري بات اليوم بلا شرعية فعلية، بعدما فقد أسسه القانونية والتمثيلية منذ ما يقارب عقدين من الزمن.
< برلمان معلّق بين التمديد والجمود
بدأت أزمة الشرعية البرلمانية منذ انتهاء الولاية القانونية لمجلس النواب في عام 2003، لتُمدد لاحقًا إلى عام 2009 باتفاق سياسي، ثم يُترك المجلس بعد ذلك في حالة فراغ دستوري دون انتخابات حتى اندلاع الأزمة السياسية الكبرى في 2011، ثم الحرب في 2015.
ومنذ ذلك الحين، لم تُجرَ أي انتخابات نيابية، رغم التغيرات الجوهرية في التركيبة السكانية والسياسية في البلاد، ما جعل المجلس الحالي غير ممثل فعليًا للشعب اليمني ولا معبّر عن واقعه المعقد.
ثلاثية الانقسام البرلماني:
اليوم، يعيش البرلمان اليمني حالة تشظٍّ غير مسبوقة، يمكن تلخيصها في ثلاث صور متباينة:
• برلمان عدن/ سيئون: يخضع لسلطة الحكومة المعترف بها دوليًا، لكنه يفتقد للنصاب القانوني المستقر، وتعطّلت جلساته منذ سنوات، ولم يعد يؤدي دورًا رقابيًا أو تشريعيًا فعالًا، بل اقتصر حضوره على منح الثقة أو تمرير قرارات محددة.
• برلمان صنعاء: يسيطر عليه الحوثيون بشكل كامل منذ عام 2015، ويُستخدم كأداة لتشريع سياسات الجماعة، وتمرير قوانين تخدم مشروعها السياسي والمذهبي، من بينها قوانين جباية الأموال (مثل "الخُمس")، وتعديلات على قانون العقوبات والمرافعات تخدم سلطتها. هذا البرلمان فاقد للشرعية الدولية والدستورية، إذ تم إخراج عدد كبير من أعضائه المعارضين، وتمارس عليه قيادة الجماعة ضغوطًا أمنية وسياسية.
• البرلمان الغائب فعليًا: فحتى جلسات "الشرعية" في سيئون وعدن تُعقد بشكل متقطع ومحدود، وسط انقسامات داخل الكتل، وتباين في الولاءات، ما أفقد المجلس قدرته على التأثير السياسي أو صياغة سياسات عامة وطنية.
نتائج الانقسام والتعطيل:
انهيار الوظيفة الرقابية: لم يعد البرلمان يمارس أي دور رقابي فعلي على الأداء الحكومي، ما ساهم في تصاعد معدلات الفساد والإفلات من المحاسبة.
غياب التشريع الموحد: هناك الآن قوانين تصدر في صنعاء وأخرى مختلفة في مناطق الشرعية، ما يُكرّس الانقسام القانوني والإداري، ويعيق أي مشروع لبناء الدولة.
تآكل الهيبة الدستورية: بات البرلمان في نظر الرأي العام مجرد أداة بيد سلطات الأمر الواقع، فاقدًا للاستقلالية، وغير قادر على تمثيل الإرادة الشعبية.
الضرورة الملحة للتمثيل العادل للجنوب:
بناءً على مخرجات الحوار الوطني الشامل عام 2013، نصت التوصيات على أن يحصل الجنوب على نصف مقاعد البرلمان، باعتباره مبدأً أساسيًا لتحقيق العدالة الوطنية، ومعالجة الاختلالات التاريخية في تمثيل المحافظات الجنوبية، التي عانت لعقود طويلة من التهميش السياسي والإقصاء.
مقارنة التمثيل البرلماني:
في الواقع الحالي، هناك اختلال واضح في توزيع المقاعد البرلمانية بين المحافظات الشمالية والجنوبية. فعلى سبيل المثال، تمتلك محافظة صنعاء (المحيط الريفي للعاصمة) وحدها (19 مقعدًا) وأمانة العاصمة صنعاء (المدينة نفسها) (12 مقعدًا) بإجمالي 31 مقعدًا، في حين أن إجمالي المقاعد المخصصة للمحافظات الجنوبية مجتمعة (عدن، لحج، أبين، شبوة، حضرموت، المهرة، الضالع، وسقطرى) لا يتجاوز (56 مقعدًا)، وهو عدد غير متناسب إطلاقًا مع مساحة الجنوب وأهميته الاقتصادية ومكانته السياسية.
هذا الاختلال الحاد في التمثيل يساهم في تعميق مشاعر التهميش والظلم لدى سكان الجنوب، ويعيق أي محاولات جادة لإعادة بناء الدولة على أسس من العدالة والمساواة.
الحاجة إلى إصلاح التقسيم الإداري:
إن أحد أبرز الأسباب الكامنة وراء هذا الخلل في التمثيل هو التقسيم الإداري غير العادل للدوائر الانتخابية، والذي تم تصميمه في مراحل سابقة لصالح مراكز النفوذ الشمالية، ما أفرز تمثيلًا برلمانيًا غير متوازن يتجاهل الحجم الجغرافي والديمغرافي والسياسي للمحافظات الجنوبية.
ولذلك، فإن أي تسوية سياسية شاملة يجب أن تبدأ بإصلاح جذري للتقسيم الإداري للدولة، بحيث يُعاد رسم الدوائر الانتخابية وفق معايير عادلة وشفافة، وبإشراف محلي ودولي، لضمان تحقيق تمثيل فعلي ومنصف لكل إقليم ومحافظة، وعلى وجه الخصوص المحافظات الجنوبية، وفق قاعدة الشراكة الوطنية.
وستقوم هذه الصحيفة بنشر تحليل خاص حول حل القضية الجنوبية ومشكله البرلمان والتمثيل في عدد الخميس القادم.
ثالثًا: مسؤولية مجلس القيادة الرئاسي.. بين الفرصة والتقويض
مثّل تشكيل مجلس القيادة الرئاسي في أبريل 2022 لحظة مفصلية في مسار السلطة الانتقالية في اليمن، حيث رُوّج له كبديل توافقي وقادر على إخراج البلاد من حالة الجمود السياسي، وتعويض الفراغ التنفيذي الناتج عن ترهل الحكومة الشرعية. غير أن الآمال الكبيرة اصطدمت بواقع مؤسسي هش، وانقسامات داخلية، وغياب الرؤية والآليات الواضحة، ما حوّل المجلس إلى كيان رمزي عاجز عن استثمار الفرصة التاريخية التي مُنحت له لإعادة تأسيس الدولة.
الإشكاليات البنيوية للمجلس
1 . ضبابية الصلاحيات وتعدد المرجعيات: لم يجرِ تحديد واضح لصلاحيات رئيس المجلس مقارنة بنوابه، ولا توزيع وظيفي حقيقي لأعضاء المجلس الثمانية. هذا الغموض أتاح نشوء صراعات صلاحيات داخلية، وتحول كل عضو إلى "رئيس ظل" في نطاق نفوذه الجغرافي أو السياسي، ما خلق تضاربًا في القرار التنفيذي.
2 . تعطيل اتخاذ القرار عبر التوافق المشلول: غياب لائحة تنظيمية داخلية، ونظام تصويت واضح، جعل اتخاذ أي قرار رئاسي مرهونًا بـ"التوافق" بين الأعضاء، وهو توافق نادر أو مستحيل في ظل الخلفيات المتباينة والمتضادة لأعضاء المجلس، الأمر الذي جَمّد العديد من الملفات الجوهرية.
3 . هيمنة النفوذ الشخصي والجهوي: بعض الأعضاء مارسوا صلاحيات مطلقة في مناطق نفوذهم، فأصبحوا حكّامًا فعليين خارج سلطة الدولة، مما قوّض من وحدة القرار، وأسّس لنظام تعددي موازٍ للدولة، يقوم على أساس المحاصصة الجغرافية والميلشيوية.
4 . غياب المساءلة وافتقار الشفافية: لم يتم وضع أي آلية لمراقبة أو محاسبة أداء أعضاء المجلس، كما غابت التقارير الدورية، أو أي نوع من الالتزام العلني بالأولويات الوطنية أو الخطط التنفيذية، مما أدى إلى تراكم الملفات المعطّلة وتضخم حالة "الشلل السيادي".
بين الفرصة التاريخية والتهديد البنيوي
رغم هذه المعضلات، فإن مجلس القيادة الرئاسي لا يزال يمثل النافذة الأخيرة الممكنة أمام إعادة بناء الدولة اليمنية، إذا ما تمت إعادة هيكلته وتحويله من منصة لتقاسم النفوذ إلى مؤسسة حقيقية للحكم الرشيد.
الفرصة الكامنة في المجلس:
> المجلس هو الإطار التنفيذي الوحيد الذي يمتلك اعترافًا دوليًا وإقليميًا.
> يجمع أعضاءه شخصيات ذات خلفيات متعددة (سياسية، عسكرية، قبلية، جنوبية وشمالية)، مما قد يشكل نواة لشراكة وطنية إذا أعيد توظيفه مؤسسيًا.
> يمثّل نقطة التقاء بين مصالح الخارج (السعودية والإمارات) والداخل (القوى المحلية)، وهو ما يمكن أن يُستثمر في إحداث اختراق سياسي.
التهديدات المرافقة:
> استمرار المجلس بصيغته الحالية دون إصلاح سيؤدي إلى تآكل شرعيته الشعبية
> فشله في إدارة ملف الاقتصاد والأمن والخدمات يزيد من الحنق الشعبي، ويفتح الباب أمام انفجارات اجتماعية في الجنوب والشمال.
> تغلغل أجندات حزبية وجهوية داخل المجلس سيُبقيه رهينة للولاءات لا لمشروع وطني شامل.
خارطة طريق لإنقاذ المجلس من التفكك
من خلال حوارات مع سياسيين وخبراء قانونيين ودبلوماسيين، تتبلور مجموعة من التوصيات العاجلة لإصلاح المجلس، وتحويله من كيان هش إلى مؤسسة فعالة:
1 . إقرار لائحة تنظيمية ملزمة: تتضمن هذه اللائحة توزيعًا دقيقًا للصلاحيات بين الرئيس ونوابه، وتحدد آلية اتخاذ القرار (بالأغلبية أو التوافق)، وتؤسس لإطار زمني واضح لعرض السياسات والنتائج.
2 . تقسيم الملفات حسب الاختصاص: تخصيص ملفات محددة لكل عضو (مثل الأمن، الاقتصاد، العلاقات الخارجية، الحوكمة المحلية...)، ومطالبته برفع تقارير أداء شهرية تُعرض على المجلس وتُنشر للرأي العام.
3 . تشكيل أمانة عامة مستقلة ومحايدة: تتولى إدارة جدول الأعمال، ومتابعة تنفيذ القرارات، وتقييم الأداء، بعيدًا عن النفوذ الشخصي أو السياسي.
4 . إطلاق مجلس استشاري وطني: يتكون من شخصيات مستقلة، تكنوقراط، وممثلين عن الشباب والمرأة والنقابات، يمنح المجلس عمقًا مجتمعيًا وشرعية وطنية جديدة.
5 . ضمان التوازن الجغرافي والتمثيلي: تفعيل مبدأ الشراكة بين الشمال والجنوب داخل المجلس وفي القرارات السيادية، بما يضمن عدم شعور أي إقليم بالإقصاء، ويقلل من النزعات الانفصالية.
6 . فصل المجلس عن الأحزاب المتآكلة: إعلان فك الارتباط الصريح مع الأحزاب التقليدية الفاشلة، وإيقاف تدخلها في التعيينات والقرارات السيادية.
إن مجلس القيادة الرئاسي يقف على مفترق طرق فإما أن يتحول إلى حاضنة لولادة دولة مدنية جديدة، أو إلى عبء إضافي على كاهل اليمنيين، إذا بقي حبيسًا لصراعات المصالح ومحصورًا في رمزية شكلية دون محتوى مؤسسي.
إن الإصلاح الجذري لبنية المجلس، وتحديث آلياته، وفصله عن إرث الفشل الحزبي، هو الطريق الوحيد لاستعادة ثقة الشعب والمجتمع الدولي، ولبناء دولة قادرة على البقاء في وجه العاصفة.
رابعًا: نحو عقد اجتماعي جديد
لقد أدى موت الأحزاب، وانتهاء شرعية البرلمان، وارتباك أداء مجلس القيادة الرئاسي، إلى مشهد سياسي هش، يتطلب إعادة بناء منظومة الحكم على أسس جديدة:
- بناء حكومة تكنوقراط مستقلة، تُمنح صلاحيات واسعة لتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والخدمية، بعيدًا عن المحاصصة.
- إجراء انتخابات محلية تضمن التمثيل الحقيقي للمجتمع وتكسر احتكار القرار.
- تطوير نظام سياسي ديمقراطي لا مركزي، يعترف بتعدد القوى والخصوصيات المناطقية، لكنه يبني دولة موحدة وفاعلة.
- ترسيخ مبدأ المحاسبة والشفافية في كل مؤسسات الدولة، بما فيها مجلس القيادة الرئاسي ذاته.
الخلاصة
المشهد السياسي اليمني يشبه جسدًا بلا روح؛ أحزاب ميتة، برلمان بلا شرعية، ومجلس رئاسي متعثر. ومع ذلك، فإن الفرصة لا تزال قائمة لإعادة بناء الدولة على أسس جديدة، إذا ما توفرت الإرادة، وتم تفعيل الآليات المؤسسية، واستُبعدت قوى الفشل والفساد. لا مستقبل لليمن إلا بدولة مدنية حديثة، قوامها القانون والمواطنة والكفاءة، لا التحاصص والولاءات.
لا يمكن إنقاذ اليمن من أزمته العميقة إلا من خلال دفن النظام السياسي القديم، بما فيه من أحزاب خاوية وبرلمان ميت، والشروع في بناء عقد اجتماعي جديد ينطلق من إرادة الشعب ويعيد تعريف معنى السياسة كمصلحة عامة لا كامتياز نخبة. لقد ماتت الأحزاب السياسية في اليمن، لكن الأمل لا يزال قائماً في بعث وطن عبر أدوات سياسية حديثة ونزيهة.
> توصيات استراتيجية للمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات ومجلس القيادة الرئاسي
استنادًا إلى تحليل واقع انهيار الأحزاب اليمنية وغياب البرلمان الفاعل
أولًا: توصيات موجهة إلى المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة
1 . تحول في استراتيجية الدعم السياسي
الانتقال من الرهان على الأحزاب التقليدية (المؤتمر، الإصلاح، الاشتراكي) إلى دعم نخب جديدة تكنوقراطية وشخصيات مستقلة غير ملوثة بالصراعات القديمة.
رفع الغطاء عن الكيانات السياسية الفاشلة، وخاصة تلك التي ارتبطت بجماعات دينية أو شبكات فساد، والضغط لإبعادها عن المشهد الانتقالي
2 . دعم تشكيل حكومة تكنوقراط مستقلة.. الدفع نحو تشكيل حكومة انتقالية من الكفاءات المستقلة، لا تخضع للمحاصصة الحزبية أو الولاءات المناطقية.. تقديم الدعم الفني والاقتصادي لحكومة تكنوقراط تلتزم بخارطة طريق إصلاحية واقعية.
3 . تمويل مشروع إعادة هيكلة الدولة لا إعادة تدوير النخب.
تخصيص برامج دعم موجهة لـ بناء المؤسسات وخلق بيئة قانونية ومؤسسية قوية، بدلًا من تمويل شبكات المحسوبية السياسية أو العسكرية.
4 . تشجيع حوار وطني شامل لا مركزي.
رعاية مؤتمر وطني يضم أطرافًا مستقلة ومنظمات مدنية، يضع أسس عقد اجتماعي جديد يضمن التعدد، ويحترم مطالب الجنوب، ويعيد تعريف شكل الدولة.
5 . فرض مشروطية صارمة على أي دعم مستقبلي.. ربط أي دعم مالي أو عسكري أو تنموي بـ:
تنفيذ إصلاحات حقيقية في أداء مجلس القيادة والحكومة.
الشفافية في الموارد العامة.
إبعاد الشخصيات المثيرة للانقسام، وخاصة المرتبطة بجماعة الإخوان أو بأطراف متورطة في الفشل السابق.
ثانيًا: توصيات موجهة إلى مجلس القيادة الرئاسي اليمني
1 . تبني نهج إصلاحي داخلي عاجل
إصدار لائحة تنظيمية واضحة للمجلس تحدد صلاحيات كل عضو، وآليات اتخاذ القرار، ووسائل الرقابة الداخلية.
تقسيم الوظائف التنفيذية بين الأعضاء (الأمن، الاقتصاد، السياسة، الإدارة المحلية...) مع رفع تقارير دورية للمحاسبة.
2 . استقلالية القرار بعيدًا عن النفوذ الحزبي
علان فك الارتباط الواضح مع الأحزاب الفاشلة، خاصة المؤتمر والإصلاحوالحزب الأشتراكي ، وعدم الاعتماد عليها في التعيينات أو القرار السيادي.
3 . إطلاق مشروع لبناء قاعدة سياسية جديدة
تشكيل مجلس استشاري وطني من التكنوقراط والشباب والنقابات، لإسناد قرارات المجلس وتوفير شرعية مجتمعية بديلة عن الأحزاب القديمة.
4 . ضمان توازن الشمال والجنوب في مراكز القرار.
الاعتراف بمطالب الجنوب السياسية والتمثيلية، وتفعيل الشراكة العادلة داخل مؤسسات الدولة، بما يعزز الاستقرار ويحد من النزعات الانفصالية.
ثالثًا: توصيات مشتركة لجميع الأطراف
1 . إزاحة بقايا النظام القديم.
لا يمكن بناء مستقبل سياسي جديد بوجود رموز فشل النظام السابق.
يجب إقصاء القيادات الحزبية والعسكرية الفاسدة من إدارة المرحلة الانتقالية.
2 . إطلاق حملة وطنية للعدالة الانتقالية.
إنشاء لجنة مستقلة لتوثيق الانتهاكات السياسية والفساد، ووضع آلية للمحاسبة وإعادة الحقوق، وخصوصًا للجنوب وأبناء المناطق المهمشة.
3 . بناء خطاب سياسي جامع حديث.
دعم خطاب سياسي مدني، وحدوي، تعددي، عابر للطوائف والجهات، يرتكز على مبدأ المواطنة لا المحاصصة.
إن موت الأحزاب اليمنية التقليدية وغياب البرلمان وارتباك أداء مجلس القيادة، يمثل لحظة مفصلية لإعادة تشكيل الدولة اليمنية من جديد. والمطلوب من السعودية والإمارات ومجلس القيادة الرئاسي إحداث قطيعة تاريخية مع أدوات الفشل السابقة، وتبني مشروع وطني يقوم على
- الكفاءة لا الولاء.
- الشفافية لا المحاصصة.
- التمثيل الحقيقي لا التوريث السياسي.
- فقط حينها يمكن الحديث عن يمن جديد يستحقه شعبه ويليق بتضحياته. تحليل سياسي هام لصحيفة الايام